قبل رحيله بـ 24 ساعة فقط، وبالتحديد يوم 5 تشرين الأول عام 1981، كتب الرئيس الراحل محمد أنور السادات مقالين فى جريدة "مايو" يتحدث فيهما عن مبادرة السلام، وتفاصيل فترة التمهيد لها. المقالان نشرهما السادات فى الصفحة التى كان يكتبها فى الجريدة التى اختارها للتعبير عن أفكاره فى ذلك الوقت، وتحت عنوان "عرفت هؤلاء".. وذلك فى فترة رئاسة الكاتب الكبير أنيس منصور لهذه الجريدة. هذان المقالان أوردهما الكاتب إبراهيم عبدالعزيز فى كتابه "رسائل أنيس منصور"، وعدهما من ضمن عدد من الوثائق التى لايزال الكاتب الكبير أنيس منصور يحتفظ بها. أنور السادات يكتب: مليون حل ... لأى مشكلة لقد تعلمت أن النية الصافية، تساعد كثيراً جداً فى توفير المناخ الملائم لحل أصعب القضايا وأكثرها تعقيداً، وهذا ما حدث عندما بدأت أفكر فى كيفية حل أعقد وأصعب مشكلة واجهتنا، وهى مشكلة الصراع العربى - الإسرائيلى. حقيقة أن المشكلة لم تحل الحل الشامل، ولكن من المؤكد أننا استطعنا أن نضع أقدامنا، على بداية الطريق الصحيح. بدأت فى سنة 1977، عندما دعانى الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، لزيارته فى فبراير، أى بعد توليه حكم الولايات المتحدة بشهر واحد. وكانت مشكلة الصراع العربى الإسرائيلى هى أساس مباحثاتنا فى واشنطن، كان جدول الأعمال يتضمن ثلاث نقاط هى، مشكلة الأرض العربية المحتلة بعد حرب 1967، والعلاقات بين العرب والإسرائيليين، والقضية الفلسطينية باعتبارها الحل لجميع المشكلات الأخرى. ولم نختلف كثيراً عندما تناقشنا فى النقطة الأولى، ولكننا اختلفنا كثيراً عند النقطة الثانية، وجاء الاختلاف عندما قلت لكارتر: "كيف تطالبنا بإقامة علاقات طبيعية مع الإسرائيليين فى الوقت الذى يحتلون فيه أرضنا؟ إن إسرائيل تتمسك بإقامة العلاقات الطبيعية، قبل الاتفاق على الانسحاب، لا لشىء إلا بهدف دعم الاحتلال واستمراره، تماماً كما كانوا يفعلون عندما اخترعوا أكذوبة أمن إسرائيل عن طريق احتلال أرض الغير، وجاءت حرب أكتوبر فأثبتت فشل نظرية الأمن الإسرائيلى. وبالتالى اخترعوا عذراً جديداً، هو مطالبتهم بإقامة علاقات طبيعية مع العرب قبل الاتفاق على الانسحاب. وقلت لكارتر أيضاً: من المستحيل أن تطالبنا إسرائيل بتطبيع العلاقات معها، قبل الاتفاق على إنهاء الاحتلال، وبعد وضع الجدول الزمنى، لمراحل الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة. أما أن تتحدث عن تبادل العلاقات وتطبيعها، فى الوقت الذى يستمر فيه الاحتلال الإسرائيلى فوق أرضنا، فهذا ما لا يقبله عاقل واحد فى الأمة العربية. وتناقشنا طويلاً فى هذه النقطة، ولم يستطع كارتر أن يقنعنى بوجهة نظره. كان كارتر يريد أن يشارك فى حل القضية، حلاً عادلاً، وشاملاً يرضى جميع الأطراف، ويكفى أنه أول رئيس أمريكى لا يتورع عن المطالبة بحق الشعب الفلسطينى فى إيجاد وطن قومى له، لم يجرؤ رئيس أمريكى قبل كارتر، ليعلن مثل هذا الرأى. كارتر وحده هو الذى وقف بشجاعة وقال رأيه بكل قوة، فاكتسب على الفور كراهية وعداء الصهيونية العالمية، وبذلت كل ما فى وسعها من أجل التخلص منه، وتحطيمه تحطيماً. أذكر أن الأمير فهد ذهب إلى واشنطن، وقال للرئيس كارتر: "اطمئن، لقد وافق ياسر عرفات على الاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 242، وإليك توقيع عرفات على هذا الاعتراف المكتوب". وفى اليوم التالى مباشرة يقف ياسر عرفات ويعلن أنه لم يعترف بقرار 242، وأنه لم يتحدث مع الأمير فهد فى هذا الموضوع، وثار الأمير فهد، وغضب غضباً شديداً من ياسر عرفات، وعاد إلى السعودية بعد انتهاء زيارته للولايات المتحدة، وأصدر بياناً يعتبر من أعنف البيانات التى صدرت عن الحكومة السعودية، ضد منظمة التحرير الفلسطينية، واستند فى بيانه إلى الورقة التى وقع عليها ياسر عرفات، اعترافه وقبوله بقرار 424، وكان فهد يعلم مقدماً، كيف يتعامل مع عرفات وأعوانه، فهو لا يقبل كلامهم إلا مسجلاً، وموقعاً منهم، ليستند إليه إذا تنكروا لما اتفقوا على قبوله. وهذا ما لم أفعله - للأسف الشديد - فى جميع معاملاتى مع عرفات وباقى أعوانه من الفلسطينيين، كانوا يجلسون معى ويتفقون على قضايا وعلى قرارات، فإذا أعلنتها بعد ذلك سارعوا بالتملص منها. وما فعله الفلسطينيون مع كارتر فعله السوريون. لقد حيروه ودوخوه وأتعبوه فى بادئ الأمر اتفقوا مع كارتر، على أن يذهب العرب فى وفد واحد للتفاوض مع الإسرائيليين، بدلاً من الذهاب فى وفود عديدة تمثل جميع الدول العربية المعنية. ووافق كارتر على الاقتراح السورى، وأرسل إلى يسألنى رأيى فى هذا الاقتراح، وكنت أعرف المناورات السياسية التى يدمنها السوريون، ولذلك رفضت الاقتراح وقلت لكارتر: "لن نذهب فى وفد واحد للتفاوض. فمعنى هذا أننا لن نفعل شيئاً، ولن نحقق أى شىء وسيتحول المؤتمر إلى قاعة لإطلاق الشعارات والمزايدات التى لا تنتهى". وتوقف كل شىء نتيجة لإصرار سوريا على طلبها، واضطر كارتر إلى الاتصال بى بعد فترة ليحاول إقناعى بقبول وجهة نظر سوريا، فقال لى: "ذهاب العرب فى وفد واحد سوف يفيد الفلسطينيين، فمن الممكن فى هذه الحالة أن يمثل الشعب الفلسطينى فى هذا الوفد العربى، ولن تعترض إسرائيل على وجود ممثل فلسطين.
أما إذا اشترك الفلسطينيون فى وفد خاص بهم، فإن إسرائيل لن تقبل. وكنت أعلم أن هذه هى مناورة أخرى من السوريين، وعلى الرغم من ذلك فقد وافقت على طلب كارتر، وقبلت أن نذهب كعرب فى وفد واحد، إلى المؤتمر الذى كنا نسعى إلى عقده. وأسقط فى يد حكام سوريا، فوجئوا بموافقتى وأصبحوا الآن فى موقف محرج للغاية فالطريق إلى المؤتمر أصبح ممهداً وسهلاً، هم فى الحقيقة لا يريدون هذا المؤتمر أبداً، فما كان منهم إلا أن رجعوا فى كلامهم، ورفضوا الاشتراك فى وفد عربى واحد، وتحدثوا عن احتمال الاشتراك بأكثر من وفد، ثم أثاروا مشكلة كيفية اختيار تلك الوفود، ومن يشترك فيها. ومن.. ومن .. إلى آخر تلك الحكايات والاعتراضات والاقتراحات التى لا تنتهى.. ولم يعرف كارتر كيف يتصرف مع السوريين، فهذه هى أول مرة يتعامل فيها معهم، وظن أن كلمة واحدة يتفق عليها تصبح نافذة المفعول، ففوجئ بأن كلمة السوريين عبارة عن ألف كلمة وكلمة، والذى يتفقون عليه اليوم يرفضونه غداً ثم يعودون إليه بعد ذلك. جلست أفكر وأستجمع أمامى جميع الاحتمالات، ومن الصحف التى كنت أطالعها فى هذا الوقت، عرفت أن مناحم بيجين - وقد نجح فى الانتخابات وأصبح رئيساً لوزراء إسرائيل - ينوى أن يسافر إلى رومانيا لمقابلة رئيسها شاوشيسكو. تذكرت أن بيجين كثيراً ما كان يتحدى العرب بقوله: "أنتم يا عرب لديكم مشكلة معنا، فأرضكم تحت قبضتنا ولديكم حقوق تتحدثون عنها وتطالبون بها، فهل يمكن أن يتحقق هذا دون أن تأتوا وتجلسوا معنا أمام مائدة مفاوضات واحدة؟" فصورتنا كانت كئيبة حقيقة أمام أنظار العالم كله، فنحن نطالب بأرضنا ونرفض أن نطلبها ممن يحتلها، ونطالب بحقوقنا ونرفض الجلوس مع الذين حرمونا منها. كل ما كنا نفعله، ومازال العرب يفعلونه حتى يومنا هذا، هو أن نجلس فى عواصمنا نوجه الإنذارات إلى إسرائيل، وإلى أصدقاء إسرائيل، وفى كل يوم نسمع زعيماً عربياً يهدد حكام إسرائيل، ويطالبهم بإعادة الأرض المحتلة فوراً وإلا...! ثم يوجه إنذاراً ثانياً إلى أمريكا بالضغط على صنيعتها إسرائيل... وإلا! ويسمع العالم هذه التهديدات وتلك الإنذارات ويسخر منا، ومن أسلوبنا العجيب فى الحصول على حقوقنا، واسترداد أرضنا المحتلة. لقد خضنا حرب أكتوبر وكتب الله لنا النصر، وأثبتنا بهذا الانتصار ذاتنا واستعدنا ثقتنا فى قدراتنا، فلماذا لا نترك الشعارات جانباً ونفكر جيداً في حل القضية بأسلوب عصرى يقبله العالم المتحضر ويشجعنا عليه. لم أفكر فى شاوشيسكو كوسيط لنا يتفاوض باسمنا، ولكن فكرت فى اقتراحه لنا بالتفاوض مع إسرائيل، وقررت أن على مصر أن تأخذ قضيتها فى يدها هى ولا تتركها فى يد الآخرين.
| لقد خضنا حرب أكتوبر وكتب الله لنا النصر | لماذا إذن نضيع الوقت؟ فى ذلك الوقت أيضاً اكتشفت شيئاً مهماً، أن أمريكا ليست ضدنا كما كنا نتوهم، نحن كنا مهملين. والدليل أننى عندما تكلمت إلى الشعب الأمريكى، استقبلنى أحسن استقبال وقالوا لى هناك: أنت رجل معقول. فتحت قناة السويس وتحملوا نفقات تطهير القناة بالكامل ولم يطلبوا منى مليماً واحداً، الرئيس الأمريكى أعلن أن الفلسطينيين لهم حق فى وطن قومى.. لماذا إذن نضيع الوقت إن العيب فينا نحن. رتبت رحلة من القاهرة إلى رومانيا لأقابل شاوشيسكو، ثم إلى إيران لأقابل الشاه، ومن إيران إلى السعودية، ثم أعود من السعودية إلى القاهرة. وأنا فى الطائرة التى تقطع المسافة بين رومانيا وإيران، والمبادرة تتشكل فى رأسى وكان شكلها الأول أن أدعو الخمسة الكبار فى العالم الذين يملكون حق "الفيتو" فى مجلس الأمن إلى القدس، إن إسرائيل تقول دائماً إنها تبحث عن الأمن وتريد السلام، أنا أيضاً أريد السلام، فهل هناك قوة أكبر من الخمسة الكبار لضمان سلام الطرفين وأمن الطرفين؟ أؤكد هنا للإخوة العرب أننى كنت مثلهم تماماً وربما أكثر... أعتقد أن موقف أمريكا ميؤوس منه وأنها تقف مع إسرائيل ظالمة ومظلومة، ولكن ثبت أن هذا كله وهم. إنك لو فهمت الشعب الأمريكى وفهمك هذا الشعب تستطيع أن تحل مشاكلك كلها، لأنهم أناس عادلون بشرط أن تكون أنت عادلاً مع نفسك.. لا تناور ولا تقل كلاماً ثم تفعل شيئاً مخالفاً". |